تضمّنت المسألة الثّالثة أصلاً من أصول العقيدة الإسلاميّة، ألا وهو: الولاء والبراء، وبيّن التّلازم بين هذه المسألة والمسألتين قبلها بـ:
- · قوله رحمه الله: ( الثّالثة: أنَّ مَنْ أطاعَ الرّسولَ ووحَّدَ اللهَ لا يجوزُ لهُ مُوالاةُ مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَهُ ولو كان أقْرَبَ قريبٍ ):
فقوله: ( من أطاع الرّسول ) وطاعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هي أن يوافقه ويتابعه وهو مختار.
قال: ( ووحّد الله ): أي أفرده بالعبادة، ولم يُشرِك به أحدا كما سبق بيانه.
فالمصنّف رحمه الله يشترط هذه الأصلَ زيادةً على الشّهادتين، وأنّ الشّهادتين لا قيام لهما إلاّ بالأصل الثّالث.
قوله: ( لا يجوزُ لهُ مُوالاةُ ): أي: يحرُم.
- والولاء والموالاة: من ( الوَلْي )، وهو: القرب والدنوّ -كما في "لسان العرب"-، فتقول: هذا يلِي هذا، أي: يقرب منه، ومنه قولك: هذا أولى، أي: أقرب.
وأُطلق على المحبوب لقربه من المحِبّ، فأطلقته العرب على جماعة كثيرة: الربّ، والمالك، والسّيد، والمعتق، والمعتَق، والنّاصر، والتّابع، والجار، وابن العمّ، والحليف، والصّهر، والعبد.
قال ابن منظور رحمه الله:" ويلاحظ في هذه المعاني أنّها تقوم على النّصرة والمحبّة ".
أمّا الولاء شرعا: فهو النّصرة والمحبّة، وأن يكون المرء مع من يحبّ ظاهرا وباطنا.
- ويقابله البراء: وهو في اللّغة من الخلاص والتنزه والابتعاد، ومنه الاستبراء من البول أي التخلّص والتنزّه.
شرعا: هو البُعدُ والخلاص والعداوة.
- · قال: ( من حادّ الله الله ورسوله ): والمحادّة: وقوع هذا في حدّ، وذاك في حدّ، كالمشاقّة، يقال: حادّ فلانٌ فلاناً، أي: صار في جانب والآخر في جانب آخر.
فالولاء للمؤمنين، والبراء من الكفّار والمشركين: من التّوحيد العمليّ الطلبيّ الّذي تضمّنته سورة الكافرون، فهو أصل من أصول الإسلام، وقد روى الطّبراني بسند حسن والبغويّ عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذرّ رضي الله عنه: (( أَيُّ عُرَى الإِيمَانِ أَوْثَقُ ؟)) قال: الله ورسوله أعلم. قال صلّى الله عليه وسلّم: (( أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ المُوَالاَةُ فِي اللهِ وَالمُعَادَاةُ فِي اللهِ، وَالحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ )).
فقرابة الدّين أولى وأعظم وأوجب من قرابة النّسب؛ بدليل أنّه لا يرثُ المسلم الكافر ولو كان ولدَه، أو والدَه.
وقد أدرك الأعداءُ أنّهم لا يقدِرون على زعزعة الإيمان في قلوب المسلمين بالغزو والاستدمار، فراحوا يشنّون الغارة تلو الغارة على أصول الإيمان، ومن أخطر مخطّطاتهم تمييع قضيّة الولاء والبراء في قلوب المسلمين، بدءاً بطمس برامج تعليم الصّبيان، إلى الدّعوة إلى خلط الأديان.
ولكن هيهات .. فإنّهم إن استطاعوا طمس البرامج والمناهج، فهل يستطيعون طمس آيات الله الكثيرة، وأحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الوفيرة ؟ قال الشّيخ عبد العزيز بن عتيق رحمه الله:" أكثر النّصوص بعد الأمر بالتّوحيد هي نصوص الولاء والبراء ".
1- من ذلك:قوله تعالى:{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28]، فقد تبرّأ الله تعالى في هذه الآية ممّن يوالي الكفرة، وتأمّل كيف عبّر بالفعل {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} لاستهجانه، وتأمّل وجه تبرّؤ الله من الموالي للكفّار بقوله:{فَلَيْسَ مِنَ اللهِ}: أي إنّ الله بريء منه كقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا )).
فإذ لم يكن من الله فممّن هو ؟ جاء الجواب في:
2- قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
وذكر ابن الجوزيّ رحمه الله في ذلك قولين:
أحدهما: من يتولّهم في الدّين، فإنّه منهم في الكفر.
والثّاني: من يتولّهم في العهد فإنّه منهم في مخالفة الأمر.
لذلك كانت الموالاة منها ما هو كفرٌ، ومنها ما هو فجور وفسق.
فالّتي تُعدّ كفرا: موالاتُهم في الدّين، والرّضا عن دينهم، وتفضيلهم على المؤمنين، ونشر دينهم أو تمكينهم من ذلك، وإعانتهم على قتل المسلمين.
والّتي تعدّ فجورا ما دون ذلك، كتقليدهم.
3- قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: من الآية118]. وبطانة الرّجل هم: خاصّته الّذين يستبطنون أمره، ويطّلعون على باطن أمره، ورحم الله القائل:
كلّ العداوات ترجى مودّتها *** إلاّ عداوة من عاداك في الدّين
ثمّ بيّن تعالى المعنى الّذي لأجله نهى عن المواصلة فقال:{لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} يعني: لا يُقصّرون السّعي في إفسادكم؛ فإنّهم وإن لم يقاتلوكم في الظّاهر، فإنّهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة.
4- قوله عزّ وجلّ:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139]. فبيّن الله تعالى أنّ موالاة الكافرين من أبرز صفات المنافقين، وما ذلك إلاّ لانعدام يقينهم في الله عزّ وجلّ؛ لذلك قال:{أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} أي: المنعة وشدّة الغلبة.
5- قوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:144]، أي: إن تولّيتموهم جعلتم لله حجّة لتعذيبكم ومعاقبتكم.
6- قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57].
7- قوله عزّ وجلّ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23].
8- قوله جلّ جلاله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة من:1].
9- قوله تعالى:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].
10- قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13].
ومن الآيات ما ذكره المصنّف رحمه الله، فقال:
- · قوله: ( والدّليل قوله تعالى:" لاَ تَجِدُ ": وعبّر بالخبر دون النّهي لتوكيد القيام بهذا الأصل، فلا يكون ولن يكون ذلك.
- · ( قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ): أي: لا يجتمع الإيمان وحبّ أهل الكفر والشّرك في قلب عبدٍ أبداً.
- · ( يُوَادُّونَ ) من المودّة وهي شدّة الحبّ ( مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ): أي: حاربهما. وأكّد ذلك بضرب الأمثلة بأقرب قريب:
- · ( وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ ) فبدأ بالأصول لشرف المرتبة وتعظيمها ( أَوْ أَبْنَاءَهُمْ ) وثنّى بالفروع لشدّة حبّهم والميل إلى الرّحمة بهم ( أَوْ إِخْوَانَهُمْ ) وهم الحواشي الّذين تربط العبدَ بهم رابطة المحبّة والتّعاطف ( أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ): وهم القبيلة الّتي يتكثّر بها.
- · ( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ ) أي: هؤلاء الّذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم {كَتَبَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} أي: نقشه في قلوبهم فلا يُمحَى {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} ثبّتهم وقوّاهم ببرهان منه ونور وهدى.
- · ( وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ): أي يُدخلهم درا كرامته والنّعيم الأبديّ؛ لأنّهم تركوا النّعيم الّذي وعدهم به الأعداء، ويقرّبهم منه لطمعهم في قربه.
- · ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ): وهذا من باب الجزاء من جنس العمل، فكما أنّهم قدّموا رضا الله على رضا غيره، أثابهم الله برضوانٍ منه.
روى التّرمذي أنّ معاويةَ رضي الله عنه كتب إلى عائشةَ رضي الله عنها أنْ: اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ ولا تكْثِرِي عليَّ، فكتبتْ عائشةُ رضي الله عنها إليه: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أمّا بعدُ، فإنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ )) وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ.
- · ( أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ): الفلاح كلمة جامعة للخير كلّه، مأخوذ من فلح الأرض؛ لأنّ الفلاّح يغرس ثمرة واحدة فيجني ثمارًا كثيرة طيبّة، فكذلك المؤمن يعمل حسنات قليلة فيجني الفوز في الدنيا والآخرة.
فمعنى ( الفلاح ): الفوز بالجنّة والبقاء بها. قال ابن أبي إسحاق:" المفلحون هم الّذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شرّ ما منه هربوا "، وقال آخر: " الفلاح هو الظّفر بالمطلوب، والنّجاة من المرهوب ".
ولمّا وقع المسلمون فيما نهاهم الله عنه وصاروا يوالون الكفّار والفجّار، ويعادون الأطهار والأبرار، أذاقهم الله تعالى ما ذاقوه من الذلّ والهوان، والخزي والحرمان، مصداقا لقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وفي " المسند" عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: ((.. وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ )).
وما أعظم كلمةَ الإمام أبي الوفاء بن عقيل رحمه الله وهو يبيّن أنّ هذا الأصل هو معيارُ للإيمان:" إذا أردت أن تعلمَ محلّ الإسلام من أهل الزّمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبّيك، وإنّما انظر إلى مواطأتهم أعداءَ الشّريعة، عاش ابن الرّاوندي والمعرّي عليهما لعائن الله ينظُمون وينثُرون، هذا يقول حديث خرافة، والمعرّي يقول تلوا باطلا وجلوا صارما، وعاشوا سنين، وعُظِّمت قبورُهم، واشتُرِيت تصانيفُهم، وهذا يدلّ على برودة الدّين في القلب " [" الآداب الشّرعيّة " لابن مفلح رحمه الله].
[يُتبع إن شاء الله]